كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان غير المسلمين يحجون بيت الله الحرام من قبل نزول هذه الآية، فلم يكن الحكم قد صدر. ونتساءل: هل الكافرون بالله يبتغون فضلًا من الله؟. نعم ففضل الله يغمر الجميع حتى الكافر، لكن رضوان الله لا يكون على الكافر.
والفضل من التجارة التي كانوا يتاجرون بها، وفضل الله موجود حتى في أيامنا هذه على الكفار أيضًا.
لكن كيف يتأتى رضوان الله على الكافر؟. إنه رضوان الله المتوهم في معتقدهم. فهم يعتقدون أنهم يفعلون ذلك إرضاءً لله. وتتجلى دقة القرآن حين يقول: {فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}، فلم يقل: فضلًا من الله ورضوانًا؛ لأن العبد المؤمن هو من يختص بتنفيذ التكاليف الإيمانية.
ولله عطاءان: عطاء الربوبية، فهو المربي الذي استدعى إلى الكون المؤمن والكافر- وسبحانه- سخر الأسباب للكل؛ هذا هو عطاء الربوبية، فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، والأسباب قد تعطي المؤمن والكافر، أما عطاء الألوهية فيتمثل في «افعل» و«لا تفعل». ويقول الحق هنا: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ}. إذن فجناحا المنهج الإيماني- افعل ولا تفعل- ليست في بالهم. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} أي إذا انتهى الإحرام، وبعد أن يخرج الحاج من الحرم ويتحلل من إحرامه فمن حقه أن يصطاد.
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} وقبل أن ينزل تحريم زيارة المشركين للبيت الحرام كان من حسن المعاملة ألا يأخذ المؤمنون الكفار الذين يزورون البيت الحرام فيعتدوا عليهم انتقامًا لما فعله الكفار من قبل؛ لذلك أمر الحق المؤمنين ألا يقولوا: ها هم أولاء قد جاءوا لنا فلنرد لهم الصاع صاعين مثلما فعلوا معنا في صلح الحديبية عندما منعونا من البيت الحرام. لأنكم أيها المؤمنون قد أخذتم من الله القوامة على منهجه في الأرض، والقائم على منهج الله في الأرض يجب ألا تكون له ذاتية ولا عصبية أسرية، ولا عصبية قبلية؛ لأنه جاء ليهيمن على الدنيا كلها، ومن الصَّغار أن ينتقم المؤمن من الكافر عندما يأتي إلى بيت الله. ولا يليق ذلك بمهمة القوامة على منهج الله.
ولذلك قال الحق لرسوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]
وحينما أمر الحق رسوله أن يحكم بين الناس فذلك الحكم يقتضي عدم تمييز المؤمن على الكافر؛ لأن المسلمين هم القُوَّام، وهم خير أمة أخرجها الله للناس كافة. ولو فهم الناس أن خير الأمة الإسلامية عائد عليهم لما حاربوها.
فنحن- المسلمين- لسنا خيرًا لأنفسنا فقط، ولكننا أمة لخير الناس جميعًا. ولذلك قال الحق: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} أي لا يصح أن يحملكم الغضب على قوم أن تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية. وعندما يسمع الكافر أن الله سبحانه وتعالى يوصي من آمن به على من كفر به ماذا يكون موقفه؟ إنّه يلمس رحمة الرب. وفي ذلك لذع للكافر لأنه لم يؤمن، لكن لو اعتدى المؤمن على الكافر ردًا على العدوان السابق، لقال الكافر لنفسه: لقد رد العدوان.
أما حين يرى الكافر أن المؤمن لم يعتد امتثالًا لأمر الله بذلك، عندئذ يرى أن الإسلام أعاد صياغة أهله بما يحقق لهم السمو النفسي الذي يتعالى عن الضغن والحقد والعصبية، ويعبر الأداء القرآني عن ذلك بدقة، فلم يأت الدين ليكبت عواطف أو غرائز ولا يجعل الإنسان أفلاطونيًا كما يدعون. ولم يقل: اكتموا بغضكم، ولكنه أوضح لنا أي: لا يحملكم كرههم وبغضهم على أن تعتدوا عليهم. فسبحانه لا يمنع الشنآن، وهو البغض، لأنه مسألة عاطفية.
فسبحانه يعلم أن منع ذلك إنما يكبت المؤمنين وكأنه يطلب منهم الأمر المحال. لذلك فالبغض من حرية الإنسان. ولكن إياك أن يحملك البغض أو الكره على أن تعتدي عليهم.
ونرى سيدنا عمر يمر عليه قاتل أخيه زيد بن الخطاب، يقول له أحدهم: هذا قاتل زيد، فيقول عمر: وماذا أصنع به وقد هداه الله إلى الإسلام، فإذا كان الإسلام جبّ الكفر ألا يجب دم أخٍ لعمر؟ ولكن عمر رضي الله عنه يقول لقاتل أخيه:
عندما تراني نحّ وجهك عني. قال ذلك لأنه يعرف دور العاطفة ويعرف أنه لا يحب قاتل أخيه، فقال قاتل أخي عمر: وهل عدم حبك لي يمنعني حقًا من حقوقي؟ فقال غمر: لا. بل تأخذ حقوقك كلها. فقال قاتل أخي عمر: لا ضير؛ إنما يبكي على الحب النساء. فالإيمان هو الذي منع عمر من أن ينتقم من قاتل أخيه.
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} اي أنه سبحانه لا يمنع مواجيد المؤمنين ووجدانهم وضمائرهم وقلوبهم التي تنفعل بالبغض والكره؛ لأنه يعلم أن ذلك لا يطيقه الإنسان؛ لأنها أمور عاطفية. والعواطف لا يقنن لها بتشريع. ولكن اعلموا أن هذه العواطف لا تبيح لكم الاعتداء.
وهكذا يتدخل الإسلام في الحركة الإنسانية ليفعل الإنسان أمرًا أو يتجنب فعل أمر ما؛ فالإسلام لا يتدخل إلا في النزوع وهي تعبير عن مرحلة لاحقة للإدراك الذي يسبب للإنسان العاطفة محبة أو كراهية، ثم يعبر الإنسان عن هذه العاطفة بالنزوع؛ لأن مظاهر الشعور ثلاثة: إدراك، ووجدان، ونزوع، فحين يمشي إنسان في بستان فيه أزهار ويرى الوردة فهذا إدراك، ولا يمنع الإسلام هذا الإدراك. وعندما يعجب الإنسان بالوردة ويحبها فهذه حرية، لكن أن تمتد اليد لتقطف الوردة فهذا ممنوع.
إن التشريع لا يتدخل في العملية النزوعية فقط إلا في مجال واحد وهو ما يتعلق بالمرأة. إن الإسلام يتدخل من أولى المراحل من مرحلة الإدراك. فالرجل حين يرى امرأة جميلة فهذا إدراك، وعندما ينشغل قلبه بحبها فهذا وجدان، لكن أن يقترب منها الإنسان فهذا نزوع.
لقد رأف الحق بالرجل ان أمره أن يغض البصر من البداية؛ لأن الإنسان لن يستطيع مطلقًا أن يفصل بين الإدراك والوجدان والنزوع.
فكل من الإدراك والوجدان يصنعان تفاعلًا في التركيب الكيماوي للرجل. فإما أن يعف الإنسان نفسه ويكبت أحاسيسه، وإما ألا يعف فيلغ في أعراض الناس؛ لذلك يخدم الشرع الإنسان من أول الأمر حين يأمره بغض البصر: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30-31]
هنا يتدخل الشرع من أول مرحلة الإدراك، فبعدها لا يمكن فصل النزوع عن المواجيد؛ لأن رؤية المرأة تحدث تفاعلًا كيماويًا في نفس الرجل، وكذلك الرجل يحدث تفاعلًا كيماويًا في نفس المرأة. أما الوردة فلا تحدث مثل هذا التفاعل. ويستطيع الإنسان اقتناء زهرية للورود.
إذن فالمراد أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع المؤمن أن تجيش عواطفه البشرية بالبغض وبالكره؛ لأن ذلك انفعال مطلوب للإيمان. وبعض من أعداء الإسلام يقول: آيات القرآن تتعارض؛ لأنه يقول: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة: 22]
والنسب الإيماني يمنع ذلك.
ويقول القرآن في موضع آخر {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]
والذي يتعمق جيدًا يعرف أن المعروف يصنعه الإنسان مع من يحب ومن لا يحب. أما الودّ فهو عمل القلب، وهذا ما نهى عنه الله بالنسبة للمشركين به، أما المعروف فالمسلم مطالب أن يفعله حتى بالنسبة لمن يكرهه.
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} إذن فالحق لم يمنع البغض. ولكنه منع النزوع المترتب على الشنآن ولو وُجد سبب من الأسباب كما حدث في صلح الحديبية. وبعد ذلك يأمر: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى}.
وهذه الآية هي التي تجعل مسألة الإيمان قضية عالمية، وكلمة «تعاون» على وزن «تفاعل»، والتفاعل يأتي من اثنين؛ مثلما نقول «تشارك»؛ فهي تقتضي اثنين؛ كأن نقول: تشارك زيد وعمرو أو: شارك زيد عمرًا أو شارك عمرو زيدًا. وكلاهما متساو.. اللهم إلا تغليب واحد بأن يأتي فاعلا مرة ومفعولا مرة ثانية، والفاعل في هذه الحالة فاعل ومفعول في آن واحد، والمفعول أيضًا فاعل في الوقت نفسه.
ومثال ذلك قولنا «قاتل فلان فلانًا» أي أن الاثنين اشتبكا في قتال أي مفاعلة. وساعة يأتي اثنان في فعل واحد، فهناك فاعل ومفعول. وهناك فرق بين أن تقول: أعن فلانًا، فالمطلوب هنا أمر لواحد بالمعاونة لآخر.
وهذا يختلف عن القول: تعاون مع فلان، أي أن تتشاركا معًا في المعاونة. ومسائل الحياة أكثر من أن تستوعبها موهبة واحدة. فأنت حين تبني بيتًا تحتاج إلى من يحفر الأساس ويبني الجدران.
ومن يصنع الطوب ومن يصنع الأسمنت ومن يصنع الحديد، ولا يستطيع إنسان واحد أن يتعلم كل هذه الحرف ليبني بيتًا. لكن التعاون خصص لكل إنسان عملا يقوم به، فهناك متخصص في كل جزئية يحتاج إليها الإنسان في حياكة الملابس، والطب، والصيدلة وغيرها من أوجه احتياجات الحياة، والحق يأمر: {وتعاونوا} ليسير دولاب الحياة ويستفيد الإنسان من كل المواهب لقاء إخلاصه في أداء عمله، و{تعاونوا} هي أن تأتي بشيء فيه تفاعل ما، ومعنى الشيء الذي فيه تفاعل أنه يوجد {مُعين} و{مُعان}.
ولكن المعين لا يظل دائمًا معينا، بل سينقلب في يوم ما إلى أن يكون مُعانا، والمعان لا يظل مُعانا، بل سيأتي وقت يصير فيه مُعينا، وهذا هو التفاعل الذي تحتاج إليه أقضية الحياة التي شاءها الله للإنسان الخليفة في الأرض والمطالب أن يعبد الله الذي لا شريك له، وأن يعمر هذه الأرض. ولا تتأتى عمارة الأرض إلا بالحركة فيها، والحركة في الأرض أوسع من أن تتحملها الطاقة النفسية لفرد واحد، بل لابد أن تتكاتف الطاقات كلها لإنشاء هذه العمارة.
إننا حين نبني عمارة واحدة نستخدم أجهزة كثيرة لطاقات كثيرة بداية من المهندس الذي يرفع مساحة القطعة من الأرض ويرسمها، وإن شاء الترقي في صنعته يصنع نموذجا مجسدا لما يرغب في بنائه، وبعد ذلك يأتي الحافر ليحفر في الأرض ثم من يضع الأساس، ومن يضع الحديد. ومن يصنع «الخرسانة» المسلحة.
ثم يأتي من يرفع البناء، ومن يقوم بالأعمال الصحية من توصيلات للمياه والمجاري، ثم يأتي من يصمم التوصيلات الكهربائية، وهكذا تتعاون طاقات كثيرة لبناء واحد، ولا تتحمله طاقة إنسان واحد.
إذن فالتعاون أمر ضروري للاستخلاف في الحياة. ومادام الإستخلاف في الحياة بقتضي من الإنسان عمارة هذه الحياة، وعمارة الحياة تقتضي ألا نفسد الشيء الصالح بل نزيده صلاحا، وحين يقول الحق: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} أي انه يريد كونًا عامرًا لا كونًا خربًا. والشيء الصالح في ذاته يبقيه على صلاحه. إذن فعمارة الحياة تتطلب منا أن نتعاون على الخير لا على الإثم.
والبر، ما هو؟ البر هو ما اطمأنت إليه نفسك؛ والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه أحد، فساعة يأتي إليك أمر تريد أن تفعله وتخاف أن يراك غيرك وأنت ترتكبه فهذا هو الإثم؛ لأنه لو لم يكن إثما لأحببت أن يراك الناس وأنت تفعل ذلك. إذن قوله الحق: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} هو أمر لكل جماعة أن تتعاون على الخير، وهذه مناسبة لأقول لكل جماعة:
تعاونوا معًا بشرط ألا تجعلوا لجمعياتكم نشاطًا يُنسب إلى غير دينكم.
مثال ذلك الجمعيات المسماة ب «الروتاري» أو «الماسونية» ويقال: إن نشاطها خيري. ونقول: كل جمعية خيرية على العين والرأس ولكن لماذا تكونونها وأنتم تقلدون فيها الغرب؟ لماذا لا تصنعون الخير باسم دينكم فيعرف العالم أن هذا خير قادم من بلاد مسلمة. والخير كل الخير ألا نأخذ هذه الأسماء الأجنبية ونطلقها على جمعياتنا حتى لا يظنن ظان أن الخير يصنعه غيرنا. وإن كان للواحد منا طاقة على العمل الخيري؛ فليعمل من خلال الدين الإسلامي. وليعلم كل إنسان أن الدين طلب منا أن تكون كل حياتنا للخير. وهذا ما يجب أن يستقر في الأذهان حتى لا يأخذ الظن الخاطئ كل من يصيبه خير من هذه الجمعيات بأن الخير قادم من غير دين الإسلام.